بقلم : الاستاذ . محمد تهامي خبير التطوير المؤسسي
في نواكشوط، حيث الرمال ليست مجرد ذرات، بل تاريخٌ يمشي على مهل، وحيث الصحراء لا تُفرِغ الصمت، بل تملأه بمعانٍ معلّقة في الأفق، زرنا مركز تكوين العلماء، لا كضيوف على مؤسسة، بل كعائدين إلى زمنٍ لم يرحل بعد، بل ينتظر من يوقظه.
بوابة من الطين المحروق… لكنها ليست كأي طين، إنها من تلك التي تحفظ الذاكرة، وتُخفي وراء سكونها ما يفيض بالحياة. عبرنا الممر الأول وكأننا نعبر من عصرٍ إلى عصر، من ضوضاء العالم إلى عزلة المعنى. لم يكن اللقاء مع مركز فحسب، بل مع حالة نادرة من الطمأنينة المعرفية، مع صرح صامت في ظاهره، ناطق في جوهره، استقبلنا د محمد المختار المامي، المدير العام للمركز، بابتسامة لا تُجامل، بل تُعبّر. نبرة صوته متزنة، لا تصعد إلا حين يُذكر فضل العلم، ولا تنخفض إلا حين يتحدث عن التواضع. في لقائه، تلمس مزيجًا نادرًا من الحزم الرحيم، والحكمة غير المتكلّفة. لم يكن حديثه عن إدارة أو أرقام أو برامج، بل عن أمانة… وكأن المركز ليس فقط منارة، بل وديعة في عنق الزمان.
“لسنا مجرّد منشأة، نحن مشروع بعمر الأمة”، قالها بثقة العارف أن الغرس لا يُثمر في يوم، لكنه يظل غرسًا يُعاند التصحر. وأردف أن المركز ليس سكنًا لطالب، ولا قاعة لدرس، بل “نظام حياة” تبدأ بالعلم ولا تنتهي به، وتُربّي العالم لا على ما يعرف، بل على ما يُؤثّر.
وفي خلفية اللقاء، لم يكن المكان ساكنًا. هناك أصوات خفيضة لطلاب يتهامسون بلغةٍ عربية سليمة، في سلوكهم وقار الكبار، وفي أعينهم جوعٌ من نوع خاص… ليس إلى طعام، بل إلى فهمٍ يعيد للعالم هيبته، وللدين صفاءه.
جدران المبنى الدراسية تحمل تواضع الطين المحروق، لكنها مشبعة بالجدّية. الأقسام موزعة حسب المراحل الأربع: الإعدادية، الثانوية، الجامعية، ثم الدراسات العليا. كل مرحلة ليست مجرد انتقال أكاديمي، بل عبور منهجي مقصود، يبدأ بتحفيظ المتون، وينتهي بقدرة على فهم الواقع، وتوجيه الأمة، المساكن الداخلية متقنة التوزيع، حيث يُراعى المستوى التعليمي، مع بيئة تعزز التآلف والانضباط. الطلاب هنا من أكثر من عشرين جنسية، من قاراتٍ شتى، في مشهد يُذكّرك بطواف الحجيج، لا فرق بين عربيّ وأعجميّ إلا بالعلم والتقوى.
وفي إحدى الزوايا، وقفنا عند المسجد الجامع. من الصعب وصف الأجواء… إنه ليس مجرد مسجد، بل قطعة روحية، بعبقٍ يكاد يُشبه الحرمين. تتداخل فيه الجنسيات واللغات، وتذوب فيه الهويات تحت مظلة واحدة: “رب زدني علما”، ثم المكتبة… ليست قاعة كتب، بل معجم حيّ. رفوف تحوي ما لا تُحصيه المكاتب التجارية، من كتب التراث، إلى أمهات التفسير والحديث، مرورًا بأصول الفقه، وانتهاءً بأحدث إصدارات الفكر الإسلامي المعاصر. جلسات الطلاب داخلها تُشبه أوراق شجرةٍ تتمايل مع رياح الفهم، ومجالس المدارسة تُعيد تعريف الحوارات الأكاديمية.
في الطريق، لمحنا الملاعب… نعم، ملاعب في مركز شرعي. هنا يُدرَّب الطالب على مهارات الحياة، لا على اجترار المصطلحات. وهناك مطبخٌ يخدم الجميع، ومطعمٌ يقدم وجبات يومية بنظام، لا بترف، لأن العلم يبدأ من احترام الجسد، كما يُبنى العقل.
وعند لحظة صفاء، استشهد د المامي بقول المؤسس العلامة محمد الحسن الددو:
“نحن لا نخرّج طلبة علم… نحن نهيّئ رجالًا يُعيدون صياغة الأمة.”
لم تكن عبارة، بل وثيقة تأسيس. ومنهجيًا، المركز يتبنى رؤية موسوعية تُخرّج عالمًا يُتقن اللغة، ويُحسن فنون التواصل، ويستوعب السياق المعاصر، ويجمع بين علوم الشرع وفهم الواقع، وبين أدوات العصر وحكمة السلف، وحين سألناه عن المسابقة الوطنية السنوية، أجاب بفخر خافت أن هذه المسابقة تُنظَّم برعاية فخامة رئيس الجمهورية، تأكيدًا لمكانة العلم الشرعي في المشروع الوطني الموريتاني، واعترافًا بأن العلماء ليسوا طرفًا، بل حجر الزاوية في البناء الحضاري.
وفي ختام اللقاء، سألنا أنفسنا سؤالًا صامتًا: هل زرنا مركزًا أم مررنا على ملامح الغد؟ هل هذا المكان هو مجرد مؤسسة، أم استعادة حقيقية للمعنى الذي فقدناه طويلًا في دوامات التخصصات الجامدة والبرامج المنفصلة عن الإنسان؟ كأن كل جدار هنا ينطق: “هذا هو الطريق”. وكأن صوت العلامة الددو لا يزال يتردّد في الأروقة:
“العالم لا يُقاس بما يحفظ، بل بما يُحيي.”
خرجنا، لكننا لم نُغادر. شيءٌ فينا ظل هناك. ربما لأننا شهدنا لحظة من لحظات النهضة… لا بالكلمات، بل بما صمَت عنه الجميع ونطقت به جدران الطين المحروق
